يشهد عام 2025 تحولات جذريةً في ميدان التعلم؛ إذ يواصل مجال التعلّم والتطوير (L&D) توثيق صلته بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسات. في هذا السياق، يستعرض هذا المقال أبرز التوجّهات التي سترسم ملامح مستقبل التعلم، بدءاً من تنامي أهمية الذكاء العاطفي، مروراً بتطور تصميم البرامج التعليمية، ووصولاً إلى نشوء منظمات ترتكز على المهارات، ودمج الذكاء الاصطناعي ضمن بيئات العمل. وفي قلب هذه التحولات، يقف التفاعل الحيّ بين التكنولوجيا، والمرونة، والتعلم المستمر، بوصفه الدعامة الأساسية لبناء مستقبل يكون فيه التعلّم محفزاً استباقياً على النجاح المؤسسي، لا مجرد استجابة للمتغيرات.

التوجّه الأول في التعلم والتطوير: التشديد على أهمية الذكاء العاطفي في التعلم

يتزايد الاهتمام بالذكاء العاطفي في بيئات العمل تدريجياً، وتُستخدَم تقنيات متقدمة لتصميم تجارب تعلم مخصصة تركز على احتياجات الفرد. أولت المؤسسات أهميةً متزايدة للرفاه النفسي للموظفين، من خلال جلسات التأمل الذهني، وورش تنمية الذكاء العاطفي، إلى جانب الكوتشينغ الاستراتيجي المصمم خصيصاً لدعم النمو الشخصي والمهني.

بينما تتغير الأهداف المؤسسية، يُصبح من الضروري مواءمة المهارات التقنية والسلوكية مع الذكاء العاطفي. ويتضمن هذا الدمج استخدام أدوات مثل الواقع الافتراضي (VR) والذكاء الاصطناعي لتصميم محتوى مخصص، يعتمد على التعلم التفاعلي والتشاركي، في بيئات تعليمية رقمية تركز على بالشمولية، والتواصل البنَّاء، والقيادة الواعية، والتغذية الراجعة المستمرة.

تُصمَّم برامج التعلم المُخصَّص باستخدام التكنولوجيا التكيفية والغامرة، والتعلم المُصغَّر (Microlearning)، والتلعيب (Gamification)، إلى جانب استثمار الشبكات الاجتماعية، والبيانات، والمقاربات المعتمدة على المهارات بدلاً من الأدوار الوظيفية التقليدية.

وتصبح أنظمة التعلم الرقمية مطلباً ضرورياً، لضمان قدرة المؤسسات على التكيُّف مع التغيرات، من خلال دعم التعاون، وتعزيز الصحة النفسية، وتمكين القيادة التشاركية، وبناء ثقافة شاملة تراعي الجميع، كأساس للاستدامة طويلة الأمد.

التوجّه الثاني في التعلم والتطوير: تطور تصميم البرامج التعليمية – تعلّم يرتبط بالأداء الفعلي

ازدادت أهمية المرونة والسرعة في مواكبة التغيرات في السنوات الأخيرة نتيجة تسارع التطورات التكنولوجية، وبرزت استراتيجيات حديثة تركز على احتياجات المتعلم، والتطبيق العملي، وتوظيف التكنولوجيا، وتطوير المهارات الرقمية. تتجه بعض الشركات أيضاً إلى تنويع أساليب التعلم ومساراته وتطبيق التعلم الاجتماعي لمراعاة تعدد الأجيال في بيئة العمل.

اتجه التصميم التعليمي نحو الشمولية، مراعياً التنوع الثقافي، والاختلافات اللغوية، وضمان إتاحة التعلم للجميع. كما استُخدمت مبادئ "بوور" (POUR) الأربعة أي أن يكون المحتوى ملموساً (perceivable)، وقابلاً للتشغيل (operable)، ومفهوماً (understandable)، ومتيناً (robust)، إلى جانب تحسين تجربة المستخدم، واعتماد أفضل الممارسات لضمان الوصول.

أما في عام 2025، فمن المتوقع أن يُحدث التعلم المدعوم بالتكنولوجيا نقلة نوعية، من خلال توظيف تقنيات الواقع الممتد (XR)، والتلعيب، وتطوير أنظمة تعلم تكيفية، وتوفير التعلم عن طريق الأجهزة المحمولة، وتحليل البيانات لتوجيه القرار، واعتماد منصات اجتماعية مبتكرة، وتقييمات تفاعلية. ستُفضي هذه الأدوات إلى تجارب تعلم أكثر تخصيصاً وفعالية، تتواءم مع طبيعة العمل الحديثة، وتلبي الحاجة إلى حلول ذكية ومرنة.

تطور تصميم البرامج التعليمية

التوجّه الثالث في التعلم والتطوير: المنظمات المرتكزة على المهارات – إعادة صياغة الهياكل التنظيمية

تتجه المؤسسات اليوم إلى اعتماد إطار جديد يستند إلى المهارات بدلاً من المسمّيات الوظيفية التقليدية؛ إذ تُمنح الأولوية للمهارات الفعلية المطلوبة لتحقيق الأهداف. تتمثل هذه الاستراتيجيات في تصميم مسارات تعلم مصمَّمة خصيصاً لتطوير المهارات الأساسية، وترسيخثقافة التعلم المستمر، والاستفادة من التحليلات الرقمية للتخطيط الاستراتيجي، والتأهب لتقلبات السوق ومتغيرات القطاع.

يُبرز التقاء التحولات التنظيمية مع تزايد التنقّل الوظيفي ضرورة ترسيخ "عقلية النمو" التي تتيح للأفراد تطوير مهاراتهم في ميادين القيادة، والامتثال، والتحول الرقمي. كما ويُعد الانتقال نحو تطوير المهارات العابرة للقطاعات من أبرز ملامح هذا التحوّل، لما يوفّره من تنوع في المهارات، وفرص وظيفية مرنة، ومجالات أوسع للإبداع، إلى جانب تعزيز سرعة التعلّم وتبادل المعرفة داخل المؤسسات، مما يُسهم في الاحتفاظ بالمواهب.

بحلول عام 2025، ستعتمد المؤسسات على استراتيجيات تعلّم ذاتي التوجيه، تدعمها تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومحتوى مُختار بعناية، ونُظم تحفيزية، لتمكين الموظفين من تطوير أنفسهم باستمرار، والتكيّف مع بيئات العمل المتغيرة.

التوجّه الرابع في التعلم والتطوير: التعلم المتكامل في سير العمل – التعلم كجزء من الحياة المهنية اليومية

برز في السنوات الأخيرة توجه عالمي نحو "التعلّم المتكامل في سير العمل" (Learning in the Flow of Work)، الذي يهدف إلى إدماج التعلّم ضمن المهام اليومية، بدلاً من فصله في دورات تدريبية مستقلة. وهذا النهج ملائم تماماً للقوى العاملة الموزعة جغرافياً؛ إذ يُعزز التعلّم من خلال التفاعل وتبادل الخبرات العملية بين الزملاء.

وللتغلّب على تحديات تطبيق هذا النموذج على نطاق عالمي، دون التأثير في كفاءة الأداء، طُوّرت منهجيات مثل "التعلّم القائم على المواقف" و"التعلّم القائم على العمل". تقدم المنهجية الأولى تجربة غامرة تطرح مواقف مشابهة لتحديات الحياة العملية، بينما تشجع الثانية على التعاون على حل المشكلات الواقعية.

لترسيخ ثقافة التعلّم المستمر، لا بدّ من التزام القيادة العليا ودعمها الفعلي، كما يتطلب تعميم هذا النهج توافر تكنولوجيا قابلة للتوسّع، ونُظم تقييم مرنة، وتواصل فعّال مع الفِرَق العاملة في مواقع مختلفة حول العالم.

في عام 2025، من المنتظر أن يغير هذا التوجّه برامج تطوير الموظفين، من خلال تعزيز التعلم المستمر بوصفه أداة استراتيجية للتكيّف المؤسسي مع عالم دائم التغيّر.

التوجّه الخامس في التعلم والتطوير: التعلّم والشراكة مع الأعمال – تآزر استراتيجي لتحقيق النجاح المؤسسي

لتحقيق توازن فعّال بين مساعي التعلّم واحتياجات الأعمال المتجددة، لا بد من فهم تركيبة القوى العاملة المعاصرة، والتوافق مع الثقافة المؤسسية القائمة، وتخطيط مسارات تعلّم استراتيجية تؤدي إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع.

يرتكز النهج الفعّال في هذا المجال على ترسيخ ثقافة التعلّم في كافة مستويات المؤسسة، مع الالتزام المستمر بالتحسين والتطوير، وإعداد قادة يُمثلون نماذج حيّة للنمو والتعلّم المستدام. ويُعَد الربط بين مؤشرات الأداء التعليمية والأهداف التجارية دليلاً على وجود رؤية موحّدة بين الفِرَق التعليمية والإدارية، مما يُفضي إلى تحسين الكفاءة والجودة، وزيادة الإنتاجية، وتنمية رأس المال البشري من خلال التطوير المستمر للمهارات.

كما يؤدي دمج الذكاء المعزّز (Augmented Intelligence) – وهو مزيج من الذكاء الاصطناعي والقدرات البشرية – مع تحليلات البيانات، إلى توفير مؤشرات دقيقة تعكس مستوى التعلّم ومدى تأثيره، مما يعزز الاحتفاظ بالمواهب ويُمهّد الطريق نحو نجاح مؤسسي مستدام.

تطور تصميم البرامج التعليمية

التوجّه السادس في التعلم والتطوير: ترسيخ الذكاء الاصطناعي والأتمتة في مكان العمل

يُتوقَّع أن يؤثر الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) في طبيعة الأدوار الوظيفية، وآلية تطوير المهارات وتعزيز الذكاء العاطفي.

وسيشهد عام 2025 اعتماداً متزايداً على أنظمة التعلّم المخصصة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي تُصمم تجارب تعليمية مُفصّلة لسد الفجوات المعرفية، وتحقيق أهداف المؤسسات. كما ستُحدث تقنيات تحليل البيانات، لا سيما تلك المعتمدة على معالجة اللغة الطبيعية (NLP) والتحليلات الحوارية، نقلة نوعية من خلال تقديم معلومات فورية تساعد في اتخاذ قرارات مدروسة.

وسوف تتيح تحليلات التعلّم المستمرة، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، فرصة حقيقية لبناء ثقافة تعلّم دائمة. وسيشمل تأثير الذكاء الاصطناعي مجالات متعددة مثل: التطبيقات التفاعلية، والمحاكاة الواقعية، والتقنيات القابلة للارتداء، والتوظيف الذكي، والتأهيل الفوري، بل وحتى القضايا الأخلاقية المرتبطة باستخدام هذه التقنيات. يُتوقَّع أن يغير هذا التوجّه عناصر العمل والتعلّم في بيئاتنا المهنية الحديثة.

التوجّه السابع في التعلم والتطوير: تحسين جودة التعلّم الرقمي – نحو تجارب تعليمية غامرة ومخصصة

يتسارع استخدام تقنيات الواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزز (AR)، والواقع المختلط (MR) في تقديم تجارب تعلم غامرة تُخاطب الحواس، وتتيح تفاعلاً مباشراً يُعزز من استيعاب المفاهيم وتطبيقها.

وسيتطور التعلّم المصغّر إلى ما يُعرف بـ"التعلّم النانوي" (Nano-learning)، والذي يُقدم محتوى فائق الصغر على شكل مقاطع مرئية قصيرة، تستهدف المتعلّمين الذين يعيشون إيقاعاً سريعاً، ويميلون إلى التعلّم المتنقّل.

وستستمر تطبيقات التلعيب في الازدهار، من خلال استخدام تحديات مخصصة وتفاعلية، تديرها تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز. كما ستُوفر المحاكاة بيئات واقعية تتيح للمتعلّم ممارسة المهارات عملياً.

يُتوقَّع أن يتنامى دور التعلم التفاعلي القائم على مقاطع الفيديو، ويتيح للمتدربين إمكانية المشاركة الفاعلة، وتخصيص تجارب التعلم، وتلقي تغذية راجعة فورية. ويستدعي تطوير التعلّم الرقمي الناجح اعتماد نهج شمولي يغير عملية تصميم المحتوى وآليات تقديمه، بما يضمن اندماج التكنولوجيا في جوهر عملية التدريب.

التوجّه الثامن في التعلم والتطوير: تجديد بنية تكنولوجيا التعلّم – نحو منصات ذكية ومتفاعلة

تشهد البنية التكنولوجية للتعلّم تحوّلاً نوعياً؛ إذ تتراجع أنظمة إدارة التعلّم التقليدية (LMS) لصالح منصات تجارب التعلّم (LXPs)، التي تنتج محتوى مُخصصاً وتجربة تعليمية ديناميكية.

يُتوقَّع أن يزداد مستوى التفاعل والتخصيص عند دمج الذكاء الاصطناعي مع الواقع الممتد، كما ستُستخدَم خوارزميات التعلّم الآلي (Machine Learning) في تحليل أداء المتعلّمين، وتكييف المسارات التعليمية بما يتناسب مع احتياجات كل فرد.

وتزداد أهمية دمج تقنيات إنترنت الأشياء (IoT) مع مفاهيم حديثة مثل البلوك تشين، والجيل الخامس (5G)، والنماذج الرقمية التوأمية (Digital Twins). وتتكامل هذه الابتكارات مع منصات LMS وLXP، بينما تُساهم روبوتات أتمتة العمليات (RPA) في تحسين كفاءة الأداء، لتُشكّل مع الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي منظومة متكاملة تقود مستقبل التعلّم الرقمي.

التوجّه التاسع في التعلم والتطوير: تمكين الكفاءات والتحوّل العالمي – الإنسان في قلب المستقبل

يُتوقَّع أن تُولي المؤسسات اهتماماً متزايداً لمبادرات إعادة التأهيل المهني (Reskilling) وتطوير المهارات الحالية (Upskilling)، مع التركيز على تعزيز قِيَم التنوع، والإنصاف، والشمول (DEI).

وتشمل المهارات المطلوبة مستقبلاً مجالات مثل القيادة، وتمكين فِرَق المبيعات، والتأهيل الرقمي، كما سيُصبح التعلّم الاجتماعي، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، أكثر تخصيصاً وتفاعلية، مما يُعزز التعاون ويُسرّع اكتساب المهارات.

ستؤدي أدوات إنشاء المحتوى الذكية، والمساعدات الافتراضية، والروبوتات الحوارية، دوراً كبيراً في توفير تجارب تعلّم متاحة في كل وقت، وذات طابع شخصي. كما سيُصبح التفكير النقدي أحد المهارات الجوهرية التي تُحافظ على الجانب الإنساني في عالم يغزوه الذكاء الاصطناعي.

أما برامج الاستدامة وحوكمة البيئة والمجتمع (ESG)، فستركّز على قضايا محورية مثل تغير المناخ، والمسؤولية الأخلاقية، والامتثال التنظيمي، من خلال أساليب تفاعلية ومحاكاة حية للواقع.

وسيعتمد التدريب على الامتثال نهجاً جديداً يتضمن تقسيم المحتوى إلى مراحل قصيرة، واستخدام مقاطع فيديو سريعة، وقوائم مراجعة، إلى جانب أدوات دعم الأداء (PSTs) لضمان تفاعل مستمر وتأهيل فعّال، يمكّن الموظفين من مواكبة تحديات عام 2025 بثقة ومرونة.

في الختام

يمثل عام 2025 مرحلة محورية في تطور التعلم والتطوير المهني. من تعزيز الذكاء العاطفي وتطوير البرامج التعليمية، إلى نشوء منظمات ترتكز على المهارات، ودمج الذكاء الاصطناعي في صميم العمل – كلها توجهات تؤكد أنَّ التعلّم أصبح ضرورة استراتيجية وليس خياراً.

وعلى خبراء التدريب والتنمية المؤسسية أن يبادروا باغتنام هذه التحوّلات، وتبنّي التقنيات الحديثة، وتطبيق استراتيجيات تعلّم متقدمة، لبناء ثقافة مؤسسية قائمة على المرونة والابتكار. إنّ الاستثمار في تنمية المهارات الأساسية، وترسيخ التعلّم المستمر، وتحديث البنية التكنولوجية، كفيل بأن يُبقي المؤسسات في طليعة المنافسة في عالم سريع التحوّل.