منذ انطلاق الثورة الصناعية، سعى الإنسان إلى تحقيق أقصى درجات الإنتاجية والازدهار من خلال الاستثمار في رأس المال المادي والآلات. غير أنَّ ثمة مساراً آخر لا يقل أهمية – بل ربما يفوقه تأثيراً – يتمثّل في الاستثمار في الإنسان ذاته، وتحديداً في قدراته العقلية.
لقد شكّلت التحديات المرتبطة بتقدم العمر وتراجع القدرات الذهنية حافزاً لعلماء الأعصاب لتطوير تمارين تدريبية تهدف إلى تسريع وظائف الدماغ وتعزيز دقتها. كما أثبتت عشرات الدراسات العلمية المحكمة أنَّ هذه التمارين ليست مجرد أفكار نظرية، بل أدوات فعّالة قابلة للتطبيق.
في عالم العمل الحديث، لم تعد القوة الجسدية هي المعيار الأهم لأداء الموظف، بل باتت الكفاءة الذهنية وسرعة المعالجة العقلية تحتل الصدارة. كما أفرزت التطورات الحديثة في علم الأعصاب نمطاً جديداً من التدريب المهني، يركّز على تحسين أداء الدماغ من ناحية السرعة والدقة، ليصبح الموظف أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر.
ليست تدريبات الذاكرة التقليدية التي عرفها أجدادنا
طوّر علماء النفس على مر التاريخ برامج تدريب معرفي تركز في الغالب على تقنيات لتقوية الذاكرة، مثل استراتيجيات التكرار والتلميحات. غير أنَّ العقد الأخير شهد نقلة نوعية؛ إذ دخل علماء الأعصاب على الخط ليبتكروا شكلاً مختلفاً من التدريب العقلي يُعرف غالباً بـ"تدريب الدماغ" (Brain Training)، وهو تدريب قائم على فهم عميق لكيفية تطور الدماغ وتكيّفه مع الزمن.
يعتمد تدريب الدماغ الحديث على مفهوم "اللدونة العصبية" (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على أن يُغيّر بنيته الكيميائية والهيكلية والوظيفية استجابةً للخبرات والتعلّم. بعبارة أخرى، الدماغ ليس عضواً ثابتاً، بل يمكن صقله وتشكيله باستمرار.
اللدونة الإيجابية والسلبية للدماغ
عندما نتعلّم مهارة جديدة، كاستخدام نظام بريد إلكتروني حديث في العمل، تبدأ أدمغتنا في استقبال رموز وأيقونات غير مألوفة. في هذه اللحظة، يدخل الدماغ في مرحلة من التغيّر، يسعى خلالها إلى إعادة تنظيم نفسه لمعالجة المعلومات الجديدة بكفاءة. تستغرق هذه العملية وقتاً وجهداً، وتتحقق عن طريق تدريبات ذهنية مكثفة ومتكررة. تبدأ التغيّرات على مستوى كيمياء الدماغ، من خلال إفراز مواد تعزّز التركيز والتعلّم، ثم تنتقل إلى مستوى البنية العصبية، من خلال إنشاء مسارات عصبية جديدة، وتنتهي بتحسين الأداء الفعلي للوظائف العقلية.
في المقابل، قد يختبر الدماغ ما يُعرف بـ"اللدونة السلبية"، خصوصاً مع التقدم في العمر. إذ تبدأ قدراته على معالجة المعلومات بالتراجع بدءاً من أواخر العشرينيات أو الثلاثينيات. يتجلى ذلك في مواقف يومية كصعوبة متابعة الحديث وسط الضجيج، وهي حالة تشبه "التعلّم العكسي"؛ إذ يتراجع الأداء عوضاً عن تحسّنه.
التدريب الدماغي: درع في وجه التراجع المعرفي
استجابةً لهذه التحديات، طوّر الباحثون تدريبات ذهنية أثبتت فعاليتها في عشرات الدراسات المنشورة في أرقى المجلات العلمية. كما أظهرت النتائج تحسناً لافتاً لا يقتصر على المهارات المستهدفة بالتدريب فقط، بل يشمل أيضاً اختبارات معيارية في مجالات مثل الذاكرة والانتباه، بل وحتى وظائف حياتية يومية كقيادة السيارة وضبط المزاج.
تبين أنَّ هذه التمارين تحفّز إفراز مواد كيميائية ترتبط بالانتباه والتعلّم، وثمة دراسات أجريت على الحيوانات أظهرت تحسّناً في صحة الدماغ على المستوى الخلوي، أي في بنيته العميقة، وليس فقط في مخرجاته الوظيفية.
تأثير التدريب الذهني داخل بيئة العمل
أظهرت 3 دراسات تطبيقية حديثة أنَّ هذا النوع من التدريب لا يقتصر تأثيره على المختبرات، بل يُحدث فرقاً حقيقياً داخل بيئات العمل المتنوعة. كما بيّنت النتائج أنَّ الموظفين الذين خضعوا لتدريبات ذهنية موجهة أظهروا أداءً مهنياً أفضل بوضوح، مع أنَّ كمية التدريب المطلوبة كانت محدودة نسبياً.
أُجريت هذه الدراسات على 3 فئات مختلفة:
- عمال شبكات الكهرباء الذين سجلوا تحسناً في مؤشرات السلامة.
- ضباط شرطة قلّلوا من أخطاء إطلاق النار.
- موظفو شركات التكنولوجيا الذين أظهروا تطوراً ملموساً في الكفاءة المعرفية.
ركزت التمارين التي استخدمت في الدراسات الثلاث على تدريب القدرات البصرية في الدماغ بشكل تدريجي لجعلها أكثر انتباهاً وسرعة. كما استُخدمت في هذه التمارين أدوات من منصة "برين اتش كيو" (BrainHQ). إليك ملخّص ما وجده الباحثون:
1. دراسة عمّال الكهرباء
يتسلق عمال الكهرباء الأعمدة لتشخيص الأعطال وتوصيل الأسلاك، وهم مطالبون بعدم ارتكاب أخطاء، لما قد يترتب عليها من خسائر جسيمة أو حتى وفيات، إلا أنّهم بشر، والخطأ وارد.
قامت مجموعة بحثية مستقلة بتقسيم 43 عاملاً إلى مجموعتين: الأولى تلقت تدريباً لمدة 90 دقيقة أسبوعياً طوال 8 أسابيع (بإجمالي 12 ساعة)، والثانية لم تتلقَّ تدريباً (مجموعة ضابطة).
بعد انقضاء فترة التدريب، سجلت المجموعة المدربة نتائج أفضل بكثير في اختبار قياسي لتقييم الانتباه والأخطاء (اختبار الاستجابة المستمرة). ثم تابع الباحثون المجموعتين لمدة 4 سنوات، معتمدين على بيانات حوادث العمل من إدارة السلامة والصحة المهنية الأمريكية (OSHA).
كما وُجد أنَّ 62.5% من المجموعة المدربة لم يرتكبوا أي خطأ يُذكر خلال تلك السنوات، مقارنةً بـ 15.8% فقط من المجموعة الضابطة. فبحساب احتمالية الوقوع في الخطأ، تبيّن أنَّ أفراد المجموعة الضابطة كانوا أكثر عرضة لتكرار الأخطاء بتسع مرات مقارنة بالمدرّبين.
2. دراسة ضباط الشرطة
يُطلب من رجال الشرطة اتخاذ قرارات خاطفة في مواقف قد تكون مسألة حياة أو موت. كما افترض الباحثون أنَّ اتخاذ قرارات أسرع وأدق يؤثر بشكل كبير في تلك النتائج.
قُسّم الضبّاط إلى مجموعتين: إحداهما تلقت تدريباً على السرعة البصرية والدقة وضبط الاستجابة، والأخرى تلقت تدريباً على الذاكرة البصرية والعلاقات المكانية. استمر التدريب لمدة 10 إلى 15 دقيقة يومياً لمدة 4 أسابيع.
قبل التدريب، خضع الضباط لاختبار ميداني أُطلقت فيه صور لرجل يحمل مسدساً وأخرى للرجل ذاته وهو يحمل هاتفاً. طُلب من الضباط إطلاق النار فقط في الحالة الأولى، والامتناع في الثانية، مع ظهور الأهداف واختفائها في أقل من ثانية.
في البداية لم يكن هناك فرق ملحوظ. لكن بعد التدريب، تحسنت دقة المجموعة المدربة بنسبة 29%. الأهم أنَّ الخطأ الأكثر شيوعاً – وهو إطلاق النار على شخص غير مسلح – انخفض بنسبة 60%.
3. دراسة موظفي التكنولوجيا
سعى الباحثون لمعرفة ما إذا كان بإمكان هذا التدريب تحسين أداء حتى العاملين في الوظائف الذهنية المتقدمة. فتم اختيار موظفين في مختبرات شركة تكنولوجية عالمية لتلقي التدريب لمدة 6 أسابيع.
أظهرت النتائج تحسّناً في الكفاءة المعرفية بنسبة 8%، وبلغت 12% لدى من تدربوا لأكثر من 17 ساعة، مقابل 5% فقط لمن تدربوا أقل من هذا المعدل.
في الختام
لقد أهدى علم الأعصاب مديري الموارد البشرية وأصحاب القرار في المؤسسات أداة جديدة وفعّالة. فبتدريب ذهني محدود نسبياً، يمكن تحقيق تحسّنات حقيقية في سرعة الدماغ ودقته، ما ينعكس إيجاباً على أداء الموظفين.
يمكن أيضاً تصميم هذه التدريبات لتتناسب مع طبيعة كل وظيفة ومهاراتها الذهنية المطلوبة. بل الأهم من ذلك، أنَّ الدراسات أظهرت أنَّ التحسن لا يقتصر على أداء التمارين التدريبية فقط، بل يمتد إلى المهام العملية اليومية المرتبطة بها.
إنَّ قدرة الدماغ على إعادة تشكيل ذاته ليعمل بسرعة وكفاءة أكبر، تُعد جوهر الإنتاجية الحقيقية في عالم العمل المعاصر.