الصحة النفسية ضرورية لعيش تجربة حياتية سوية، لكن تشهد بيئات العمل في مختلف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة في كافة القطاعات تأزماً واضحاً ومقلقاً في الصحة النفسية للعاملين فيها، وتشير الدراسات الإحصائية "لمؤشر الصحة النفسية" التابع لشركة "تيلوس" (TELUS Mental Health Index) إلى أنَّ مستويات الصحة النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية سجلت تحسُّناً طفيفاً يكاد لا يُذكَر؛ إذ ارتفعت من 69.8 نقطة في شباط/ فبراير من عام 2023 إلى 70.9 نقطة في أيار/ مايو من العام نفسه، وبلغت نسبة العاملين المصابين بأزمات الصحة النفسية المتوسطة نحو 42%، والشديدة نحو 22%.

يُعزَى تدهور الصحة النفسية ضمن مكان العمل إلى أسباب عدة يُذكَر منها بيئات العمل التي لا تراعي راحة الموظف، وإجهاد العاملين بالمسؤوليات والأعباء التي تفوق إمكاناتهم، وعدم تحقيق الاستثمار الأمثل للمهارات والكفاءات الموجودة ضمن المؤسسة، أو افتقار العامل إلى المهارات اللازمة للوظيفة، ويزداد الوضع سوءاً عندما يفترض الموظف أنَّ أصدقاءه، وأفراد عائلته، وزملاءه، ومديروه في العمل لن يتفهموا مشكلته، ويخشى أن يفقد احترامهم وثقتهم بإمكاناته ومهاراته؛ وبالنتيجة تتأزم مشكلته ولا يحصل على المساعدة والدعم اللازمين.

لا تقتصر التداعيات السلبية لأزمات الصحة النفسية على الموظف بحد ذاته؛ وإنَّما ينعكس تأثيرها على كامل أعضاء فريق العمل، وقد يطال إنتاجية المؤسسة ككل، وهنا يبرز التحدي الآتي "كيف تضبط الإدارة الإيرادات والتكاليف والإنتاجية من جهة، وتضمن حصول الموظفين على الدعم النفسي اللازم من جهة أخرى؟".

أسباب أزمة الصحة النفسية في المؤسسات

لا يمكن حصر تحديات الصحة النفسية للموظفين في سبب معيَّن؛ لأنَّها قد تنجم عن مجموعة متنوعة من الظروف والأوضاع المعيشية مثل التعرض لتجربة قاسية على الصعيد الشخصي مثل وفاة أحد الأحبة أو الطلاق أو التعرض لحادثة مزعجة ضمن بيئة العمل وغيرها من الأماكن العامة، أحياناً تكون الحالات الصحية المزمنة وعقد النقص الاجتماعية مثل الفقر هي السبب الكامن خلف تأزم الصحة النفسية عند الموظف.

تشير استطلاعات شركة الاستشارات الإدارية الأمريكية "ماكنزي" (McKinsey) إلى أنَّ عجز الموظف عن تلبية احتياجاته الاجتماعية يجعله أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية، وتشمل هذه التحديات الاجتماعية قلة وسائط النقل أو الحاجة إلى رعاية الأطفال الصغار.

تؤدي ظروف وبيئات العمل المؤذية دوراً محورياً في تأزم الحالة النفسية للموظف في مكان العمل؛ إذ يعاني نحو 60% من الموظفين حول العالم من التداعيات السلبية للإجهاد الوظيفي وفقاً لدراسة أُجرِيت في الآونة الأخيرة.

يتزايد الطلب على خبراء الصحة النفسية في الوقت الحالي، كما تواجه الولايات المتحدة الأمريكية نقصاً حاداً في عدد الخبراء اللازم لتلبية الاحتياجات المتزايدة؛ إذ يُقدَّر عدد الخبراء اللازم لتلبية الاحتياجات الحالية نحو 8200، ويُتوقَّع أن تشهد الولايات المتحدة الأمريكية نقصاً متزايداً قد يبلغ نحو 31091 طبيباً نفسياً في نهاية عام 2024، وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة الضغط الواقع على عاتق علماء النفس، والمرشدين الاجتماعيين وغيرهم من مزودي الخدمات النفسية.

يعاني خبراء الصحة النفسية من التحديات والأزمات النفسية مثل بقية شرائح المجتمع، ويتعرضون للاحتراق الوظيفي والتوتر، والاكتئاب وغيرها من الأعراض التي تؤثر في حياتهم الشخصية والمهنية.

تبلغ نسبة العاملين في الولايات المتحدة الأمريكية نحو 60%، فيجب أن تتحمل المؤسسات مسؤولية تقديم الدعم والعلاجات النفسية اللازمة للموظفين، ومن حق الموظف أن يعمل في بيئة صحية وآمنة ومريحة تشجع على العمل المشترك والتعاون بين أعضاء الفريق وتساهم في زيادة الإنتاجية ومعدل الاحتفاظ بالموظفين.

يؤدي العمل في بيئة غير صحية وعدم توفُّر الدعم النفسي اللازم إلى إعاقة سير العمل في المؤسسة وانخفاض الإنتاجية بسبب التوتر والإجهاد وارتفاع معدلات دوران الموظفين.

حل أزمة الصحة النفسية في بيئات العمل:

يجب أن تضع المؤسسات نظاماً شاملاً يعطي الأولوية لراحة الموظف ويقدِّم الدعم النفسي اللازم في بيئات العمل، ويقتضي تطبيق هذه العقلية في المؤسسات فهم أعراض الأمراض النفسية واختلافها من شخص لآخر، وقد تظهر هذه الاضطرابات النفسية في سلوكات الموظف، وتشمل الأعراض التعب الشديد، والاحتراق الوظيفي، وسرعة الغضب، وفرط النشاط، والحساسية، وعدم الاندماج مع بيئة العمل.

تؤثر هذه الأعراض تأثيراً سلبياً وملحوظاً في الإنتاجية عندما لا يتلقى الموظف الدعم النفسي اللازم، ويفيد أحد تقارير "مؤشر الصحة النفسية" التابع لشركة "تيلوس" المنشور في حزيران/ يونيو عام 2023 أنَّ 21% من العاملين في الولايات المتحدة الأمريكية يعانون من التأثير السلبي لصحتهم النفسية في إنتاجيتهم في العمل.

كشف أحد استطلاعات مؤسسة "غالوب" (Gallup) أنَّ 55% من الأمريكيين يتعرضون للتوتر النفسي في معظم الوقت، و45% منهم يعانون من القلق، وبيَّنت النتائج انتشار اضطرابات الغضب بين ما يزيد عن 22% من الأمريكيين.

يجب أن تتفهم إدارة المؤسسة مختلف أعراض اضطرابات الصحة النفسية، وتعمل على اقتراح حلول مخصصة لكل منها، وتختلف أعراض وشدة الأمراض النفسية ومعدلات الإصابة بها بين الرجال والنساء.

تشير الدراسات الإحصائية إلى أنَّ النساء أكثر عرضة بمعدل ضعفين إلى 3 أضعاف للإصابة "باضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية" (post-traumatic stress disorder) بعد التعرض لحادثة أو تجربة قاسية، وهو ما يؤدي إلى تأزم صحتهن النفسية، كما يشير تقرير شهر حزيران/ يونيو عام 2023 إلى شيوع اضطرابات الصحة النفسية بين النساء أكثر من الرجال.

يجب أن تشمل حزم استحقاقات الموظفين نظام موارد متكاملاً خاصاً بالصحة النفسية؛ إذ يستفيد عدد من الموظفين في الوقت الحالي من مزايا التأمين والرعاية الصحية التي تقدِّمها مؤسساتهم، فيُتاح لهم تلقِّي العلاجات اللازمة لمشكلاتهم الصحية.

4 خطوات للتغلب على أزمة الصحة النفسية في مكان العمل:

يجب أن تشمل استحقاقات الموظفين إمكانية التواصل مع خبراء الصحة النفسية، وتأمين الموارد، والتثقيف، والتوعية، والدعم اللازم لتلقِّي المساعدة النفسية، وفيما يأتي 4 خطوات للتغلب على أزمة الصحة النفسية في مكان العمل:

1. تأمين الرعاية النفسية على مدار الساعة:

لا تحتمل المشكلات النفسية التأجيل أو الانتظار، سواء كانت شاغلاً ثانوياً يحتاج إلى بعض النصح والإرشاد أم أزمة خطرة؛ إذ إنَّ تقديم الدعم النفسي المستمر ضروري للكشف المبكر عن الاضطرابات النفسية وتشخيصها وعلاجها، وقد يؤدي إغفال الأعراض إلى سنوات من الصراع والمعاناة من الاضطرابات النفسية.

2. تقديم الاستشارة النفسية عند الحاجة:

يتم ذلك عن طريق توفير إمكانية الحصول على الاستشارات النفسية عند الحاجة، مع الحرص على تأمين البيئة المناسبة لحالة الموظف ووضعه النفسي، كما يجب أن يتاح للموظف إمكانية التواصل مع مختص الرعاية عن طريق المكالمات الصوتية، أو الدردشة الكتابية عندما لا يرغب برؤية المختص أو التحدث إليه وجهاً لوجه.

3. تقديم الرعاية النفسية المخصصة:

يتم ذلك عن طريق تأمين كوتش أو منتور شخصي يساعد الموظف عند الحاجة ويضمن اتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع وضعه النفسي؛ إذ تتيح هذه الآلية للمختص إمكانية الاطلاع على كافة المعطيات المتعلقة بالوضع النفسي للموظف، واستخدامها في وضع خطة علاج مصمَّمة خصيصاً لهذه الحالة وقابلة لإجراء التعديلات والتغييرات عند الحاجة.

4. استخدام الأدوات الرقمية:

لا يجب أن تقتصر خدمات الصحة النفسية على التواصل مع المستشارين أو مقدِّمي الرعاية النفسية؛ وإنَّما يُفضَّل أن تشمل مصادر وأدوات رقمية تتيح إمكانية متابعة العلاج ذاتياً إلى جانب تطبيق التقنيات التي يتلقاها الموظف خلال جلسات الاستشارة مثل تمرينات التنفس على سبيل المثال.

قد تشمل منصات الصحة النفسية الرقمية أدوات خاصة بجمع البيانات من أجل مراقبة سير عمليات الرعاية النفسية، ومتابعة التقدم، والحصول على تغذية راجعة مستمرة من الموظفين وفريق الرعاية، فيجب أن توضح المؤسسة مزايا الدعم التي تتكفل بها تدريبات الصحة النفسية وتشجع الموظفين على استخدامها والاستفادة منها.

في الختام:

يمكن معالجة مسببات الاضطرابات النفسية ضمن مكان العمل عن طريق تأمين بيئة مريحة تراعي احتياجات الموظف، إلى جانب تطبيق برامج وتدريبات الدعم النفسي، فقد أصبح إعطاء الأولوية للصحة النفسية للموظفين حاجة أساسية ومطلباً ضرورياً في العصر الحديث، وتقع على عاتق الإدارة مهمة تأمين الظروف اللازمة لزيادة مستوى سعادة الموظفين واندماجهم ضمن بيئة العمل، وتوفير ثقافة تضمن نجاح المؤسسة في تحقيق أهدافها.