يكتب مالكوم نوليس: لقد نشأت ووعيت على فكرة مفادها أن المعلم: هو الشخص المسؤول عن انتقاء المواضيع التي يتعلمها الطلاب إضافة إلى طريقة التعليم والمكان وتقدير مدى قدرتهم على الاستيعاب. بذلك يكون المعلم مسؤولاً عن إيصال معلومات معينة بطريقة مناسبة تضمن الاستيعاب.

فهذا هو الأسلوب الذي تفرد به أساتذتي جميعهم، فيكاد هذا النموذج التعليمي هو الوحيد الذي عهدته، حيث قمت بتطبيقه أثناء دعوتي للتعليم في كلية "جروج وليافر" في شيكاغو خلال فترة قصيرة وذلك إبان الحرب العالمية الثانية. بداية غمرتني السعادة والفخر بهذا الإنجاز. مما جعلني أثق بنفسي كأستاذ من الدرجة الممتازة. فقد حرصت على أن تكون معلوماتي منظمة بشكل جيد، لذلك كنت أعد مخططات تمهيدية منطقية وجيدة. وأستعين بالأمثلة الممتعة وذلك لسهولة إيصال المفاهيم والمبادئ النظرية الصعبة الفهم إلى أذهان الطلاب. فقد بدأت الشرح بوضوح وقوة ونشاط، ومن لحظة لأخرى كنت أعمد لخلق جو من الضحك الخافت ذلك لكسر حاجز السأم والروتين. وكثيراً ما توقفت عن متابعة الشرح لإفساح المجال أمام من يريد طرح سؤال ما. وعند نهاية كل محاضرة كنا نجري مناقشات ومشاركات ونحل بعض التمارين التطبيقية كل ذلك لإضفاء جو من النشاط والحيوية داخل الصف. أما فيما يخص الاختبارات التي قام بها الطلاب فكانت مناسبة وذات نتائج جيدة.

فكان جل ما يشعرني بالارتياح هو تنفيذهم للأمور التي كنت أفرضها عليهم طوال الوقت. إذ من الملاحظ أن وظائف السكرتارية هي ما كان يتحضر لها معظم الطلاب، فقد امتازوا بسلوك حسن وضمير يقظ أثناء قيامهم بالواجبات المفروضة عليهم. حيث أنهم قاموا بتدوين الملاحظات إضافة إلى إجراء الفروض المطلوبة، وهذا ما أدى إلى سهولة قيامهم بالاستحضار الذهني للمعلومات في الامتحان النهائي (فالمعلومات المطلوبة في الامتحان كانت في غالبها من سياق المحاضرات التي تم شرحها). حيث أن نتائج الامتحانات أثبتت أن الطلاب من الفئة A هم أكثر الطلاب تذكراً لما كنت أقوله خلال المحاضرات. فالجائزة التي حصلت عليها بالنسبة لي تقدر بقيمتها المعنوية وليست المادية فهي شهادة هامة على أني أستاذ جيد أمتلك القدرة الجيدة على ضبط الطلاب وإيصال المعلومات إلى أذهانهم، لقد كنت جيداً بحق.

وأنوه هنا إلى أنني بدأت أسعى للحصول على الماجستير في تعليم الراشدين في جامعة شيكاغو قبل ذلك بعام. وأثناء حضوري للمقررات الأولى، حظيت بفرصة جيدة في مشاركة بعض المعلمين الذين يقومون أيضاً بالتحضير لنيل درجة الماجستير. فعند نهاية المقرر التعليمي في الجامعة، قمت بالتسجيل في حلقة دراسية في مجال الاستشارة النفسية وذلك ضمن الجامعة نفسها بإشراف الأستاذ "آرثرشيدلن"، وهو زميل "كارل روجرز". عند اللقاء الأول وبدون مبالغة كان ذلك صدمة كبيرة لي، فما حدث هو كالتالي: التف خمسة عشر طالباً حول طاولة الاجتماع لمدة عشرين دقيقة وكانوا يتناقشون بأمور عامة. وقف أحدهم وسأل: أين المعلم؟ فأجابه شخص آخر هذا هو المعلم واسمه "آرت"، وقد تم تعيينه من قبل قسم علم النفس لتدريسنا. سأل آخر: هل هناك من مخطط عام لمواضيع المقرر؟ عندها أجابه آرت: "هل تريد مخططاً عاماً للمقرر؟" ساد الصمت لعدة دقائق ليقطعه آخر بقوله: "أرغب بمعرفة سبب تواجدنا هنا وما هي الأمور التي سنتعلمها؟" اتجهنا جميعاً نحو طاولة الاجتماع وعرض كل منا بدوره غاياته وتوقعاته. وقال "آرت" عندما جاء دوره: "آمل أن تشكلوا لي عوناً كبيراً كي أصبح مُسهلاً أفضل في مجال التعلم".

لم يسبق لي أن عملت جدياً أكثر من ذلك الوقت

لا أرغب بسرد الأحداث، فجل ما أستطيع إخباركم إياه هو أنه وخلال الأسبوع التالي قمت بقراءة جميع مؤلفات "كارل روجرز" واستفسرت عن عناوين الطلاب الذين خضعوا للمقرر من قبل، وحصلت منهم على كل المعلومات، ثم قمت بوضع خطة للبحث الجماعي وعرضها عليهم في الاجتماع الثاني (اعتمدت تلك الخطة بعد إجراء بعض التعديلات). لم يسبق لي أن قرأت هذا الكم الهائل من الكتب والمقالات. فكانت المرة الأولى التي أبذل فيها أقصى طاقاتي، فلم أكن على هذا القدر من المسؤولية في المرحلة التعليمية، سواء أكنت بمفردي أو مع الطلاب الآخرين. حقاً إنها لسعادة حقيقية! عندها فقط بدأت أدرك معنى كلمة "مُسهّل" ودلالتها، فلم أعد مهتماً بمفهوم "المعلم". ولحسن الحظ، فإن حلقة بحثي التالية والتي كانت بإشراف "سيريل أوهاول" دعمت كثيراً وجهة نظري الجديدة.

وبعد إتمام المقرر مع "سيريل أوهاول"، طلب مني "جورج ويليامز" أن أعيد النظر في دراسة طرائق تعليم الراشدين. وبصراحة شديدة، هذا ما كنت أنتظره. فقررت عندها أن أجعل من ذلك اليوم نقطة تحول هامة في حياتي المهنية. فهذا ما كنت فعلاً أسعى إليه والهدف من ذلك كله هو أن أصبح مُسهّلاً لا معلماً. وقد أخبرت الطلاب عند بداية الدورة برغبتي في ابتكار طريقة مختلفة في التعليم، وحدثتهم عن تجربتي التي خضتها مع كل من" شيدلن وهاول" وخصصت بالذكر النموذجين الذين تعلمتهما لأصبح مُسهّلاً في مجال التعلم. ففي تلك الأثناء أعترف بأن ثقتي بقدرتي على تطبيق ما تعلمته لم تكن كافية، فتلك كانت انطلاقتي الأولى في مجال الميدان العملي بعد تجارب كثيرة. أجل أدركت بأن ذلك لن ينجح إلا في حال استعداد الطلاب على تحمل قدر كبير من المسؤولية في عملية التعلم هذه. ولكن في حال إدراكهم أن صعوبة المهمة تفوق قدراتهم، عندها سأقرر إيقاف هذه الطريقة.

وهنا تم الاستعداد بالإجماع على خوض غمار التجربة وتحمل المسؤولية. ففي الوقت المتبقي من اجتماعنا الأول، قمنا بعملية التعارف على بعضنا البعض، إضافة إلى أن الطلاب عبروا عن رغباتهم وتحدثوا عن الوسائل والطرق التي سيتبعونها. بعد ذلك قمت بتوزيع مخطط للمنهج الدراسي يتضمن أهداف المقرر والوحدات التعليمية (فأطلقت عليها اسم "وحدات البحث") إضافة إلى أسماء المراجع للاستعانة بالوسائل المختصة للوصول إلى الأهداف. فعرضت عليهم مهمة اختيار "وحدة البحث" الخاصة بالأسبوع. وفي الاجتماع التالي، قمنا بتشكيل "فرق البحث" والتي تضم متطوعين للبحث بالوحدات التي يجدونها أكثر متعة.

التقيت بفرق البحث خلال الأربعة أسابيع التالية بصفتي مستشاراً متنقلاً وشخصاً بارعاً. وفي أثناء الوقت المتبقي من الفصل الدراسي قامت العروض والمناقشات من قبل فرق البحث. فكانت بحق عروض إبداعية التمست فيها نشوة الإنجاز التي غمرت أولئك الطلاب. وعند نهاية الفصل الدراسي كنت قد أدركت مدى قدرتي على كوني مُسهّلاً ناجحاً.

فرق ووحدات البحث

هنا أمعنت النظر بالأحداث التي جرت. كنت مدركاً تماماً ذلك التطور الكبير الذي حدث في شخصيتي. فانتقل مفهومي حول ذاتي من معلم إلى مُسهّل. وحتى مهنتي فقد تغيرت. من عملية النقل لمضمون المادة التعليمية، إلى الانتقال للاهتمام بتوجيه العملية التي أقوم من خلالها بنقل تلك المادة التعليمية. إذاً: أولاً: العملية وثانياً: المضمون.

إضافة لذلك، فلقد اختبرت مكافآت معنوية جديدة. سابقاً كان ضبط الطلاب هو ما يسعدني أما الآن أصبحت أجد سعادتي في نشاط أولئك الطلاب وحركتهم. وفي النهاية هذا ما كنت أسعى إليه. وأخلص هنا للقول إن وصولي للهدف إنما كان نتيجة للسعي المستمر وراء تنفيذ مجموعة مختلفة من الأعمال التي تتطلب بدورها كثيراً من المهارات. ذلك بدلاً من اعتناق دور مخطط ومعلم المحتوى بمهارات العرض والتقديم. قمت بوظيفة مصمم ومدير عملية التعلم بما تتطلبه من تعزيز العلاقات وتقييم الحاجات وإشراك الطلاب في عملية التخطيط وحثهم للاعتماد على الوسائل التعليمية المساعدة وتشجيعهم على المبادرة في عملية التعلم. فبعد كل ما حدث كنت أبعد ما يكون عن التفكير بأن أعود معلماً من جديد.

 


د. محمد ابراهيم بدره