يُعد الالتزام بالتعلُّم والتطوير ضرورةً لاستمرارية المنافسة بالنسبة لكلٍّ من الأفراد والمؤسسات على حدٍّ سواء. بالنسبة للأفراد، يقتضي التعلم المستمر اختيار توجه مهني، واكتساب المهارات والمؤهلات اللازمة لتحقيق النجاح في ظل التغيرات المستمرة في قطاع العمل، كما تتجه المؤسسات في الوقت الحالي للاعتماد على أدوات تحليل البيانات في تصميم برامج تدريب وتطوير الموظفين. يبحث المقال في أهمية البيانات والدراسات التحليلية في تحسين تجارب تدريب الموظفين وضمان نجاح المؤسسات في تحقيق الأهداف المرجوة.
تغيُّر برامج التعلم والتطوير في الشركات
لقد طرأت تغييرات جذرية على طريقة تعاطي المؤسسات مع موضوع التعلُّم والتطوير في السنوات الأخيرة الماضية. كانت برامج التدريب والتطوير عامة وموحدة إلى جانب افتقارها للتخصيص وعدم مراعاتها للاحتياجات والأهداف الفردية في السابق، ولكن أتاحت أدوات تحليل البيانات للمؤسسات إمكانية اتباع نهج التخصيص وإعداد إستراتيجيات التعلم والتطوير بناءً على البيانات المتاحة.
إنَّ تحليل البيانات هو عملية يجري خلالها تدقيق البيانات المتوفرة ودراستها وتأويلها إلى استنتاجات مفيدة، وأنماط، وتوجهات. ثمة مجموعة متنوعة من التقنيات والأدوات المستخدمة في تحليل مجموعات البيانات الضخمة والاستفادة من النتائج في اتخاذ القرارات، وحل المشكلات، وتحسين إجراءات العمل. تتضمن مراحل عملية التحليل جمع البيانات، وتحويلها إلى الصيغة المناسبة، وتطبيق الطرائق الحسابية والإحصائية لاستخلاص المعلومات المطلوبة منها.
يجب فرض القواعد على عمليات تحليل البيانات من أجل الاستفادة من النتائج في اتخاذ القرارات الإدارية.
يركز علم "تحليلات التعلم" على دراسة البيانات ضمن قطاع التعليم، وهو يقتضي جمع وتحليل البيانات المتعلقة بتجارب التعلم ونتائجه مثل الأداء، والاندماج، والسلوك ضمن البيئات التعليمية. تشترك "تحليلات البيانات" و"تحليلات التعلم" في أدواتها ومنهجياتها لكنها تختلف في مجالات تطبيقها. إنَّ تحليل البيانات مجالٌ واسع قابل للتطبيق في مختلف قطاعات العمل، في حين تستهدف تحليلات التعلم الأوساط الأكاديمية وبرامج تدريب الموظفين عن طريق استخدام البيانات في تصميم البرامج والمبادرات وتحسين أساليب التلقين ونتائج التعلم.
تطبيقات تحليلات التعلم
تستفيد المؤسسات من تحليلات التعلم في زيادة فعالية برامج التدريب؛ إذ تبرز النتائج المحاور التي تحتاج للتحسين، وتُستخدَم البيانات في اتخاذ القرارات النهائية.
فيما يلي 4 فوائد لتحليلات التعلم:
- الحصول على معلومات قيِّمة عن سلوكات المتدربين، وأدائهم، وميولهم؛ إذ تستفيد المؤسسات من نتائج تحليل البيانات في تحديد الأنماط، والتوجهات التي تساعد في تحسين تجربة التعلم. تُطبَّق التحسينات على المحتوى، وإجراءات التخصيص، والتمارين الإضافية، والتقييمات، وذلك بناءً على احتياجات المتدربين.
- تقدير فعالية برامج التدريب أثناء تطبيقها؛ إذ تقدم أدوات التحليل المتطورة مقاييس دقيقة تساعد في تحسين منهج التدريب بناءً على البيانات المتاحة، وهي أفضل من "معيار سكورم" (SCORM) الذي يُستخدَم لمتابعة الأداء الفردي والجماعي عن طريق بيانات الحضور، ومعدلات الإكمال، ونتائج الاختبارات.
- تحديد أجزاء المنهج التي تحتاج لمصادر أو دعم إضافي.
- إعداد مبادرات التدريب بناءً على الأهداف التجارية والمهارات التي تفتقر إليها المؤسسة؛ إذ يساعد تحليل بيانات أداء المتدربين وفجوات المهارات في تصميم برنامج تدريب يسهم في تحقيق أهداف الشركة.
الحاجة للتخصيص
يشرح المؤلف "إيه دي ديتريك" (A. D. Detrick) في إحدى المقالات المنشورة في عام 2016 عن المنهجية التقليدية المُتبَعة في تطبيق تحليلات التعلم على النحو التالي: "لقد اعتمد قطاع التدريب لسنوات طويلة على مبدأ توجيهي بسيط ينص على تقديم محتوى عملي، ووثيق الصلة بأهداف التدريب وفي الوقت المناسب. عمد العاملون في قطاع التدريب لتقييم وتحسين المبادرات باستخدام مجموعة من البيانات عالية الجودة. تم جمع بيانات سجلات إنهاء الدورات التدريبية، واستبيانات رضا المشاركين، ونتائج الاختبارات من أجل مقارنتها ومتابعة تطور الأداء.
ولقد أدى توفر البيانات الموسعة ورفيعة المستوى فقط إلى الحد من إمكانية إجراء دراسات تحليلية مفيدة، مما دفع المعنيين بمبادرات التعلم والتطوير إلى خفض سقف توقعاتهم. مازالت الأنظار تتجه نحو تأمين برامج تدريب عملية، ووثيقة الصلة بالأهداف المرجوة، ومُقدَّمة في أوقات الحاجة وبحيث تكون التجربة مخصصة للاحتياجات المطلوبة".
أصبح من الضروري إدراك تنوع احتياجات الموظفين، ولم تعد المنهجيات التقليدية لتحليل البيانات كافية في ظل التغيرات الجارية في العالم. غالباً ما تفشل برامج التدريب الموحدة في تلبية بعض المتطلبات ومراعاة تنوع مستويات المهارات وظروف المؤسسات في العصر الحديث. تقدم تحليلات التعلم برامج تأخذ بعين الاعتبار المتطلبات الوظيفية، كما يمكن إنشاء مسارات تعلم مخصصة عن طريق تحليل بيانات تجارب الموظف التدريبية السابقة، ونقاط قوته، وضعفه، ومتطلبات المهارات.
إعداد برامج تدريب مخصصة
يتضمن التخصيص مراعاة طرائق وأساليب التعلم التي يفضلها المشاركون عند إعداد الأنشطة التدريبية. يحبذ بعض الموظفين الطرائق التقليدية، في حين يفضل آخرون التعلم عبر الإنترنت أو من خلال التمارين العملية. تتيح تحليلات التعلم للمؤسسات إمكانية تحديد الوسائل التي يفضلها المشاركون والاعتماد على هذه البيانات في إعداد طرائق التدريب.
التوجه نحو التعلم المستمر
ثمة نقلة نوعية باتجاه التعلم المستمر نتيجة تغير المهارات المطلوبة في سوق العمل، وقد أثبتت نماذج التدريب التقليدية فشلها في تأهيل الموظفين للتعامل مع التطورات التكنولوجية والممارسات المتبعة في قطاع العمل. تؤدي تحليلات التعلم دوراً بارزاً في متابعة مهارات الموظفين وكفاءاتهم، وذلك عن طريق تحديد ثغرات المهارات، واقتراح دورات تدريبية مفيدة، وتوقع المهارات التي يمكن أن يحتاج إليها الموظف مستقبلاً بناءً على توجهات السوق. تتيح بيانات التغذية الراجعة المباشرة للموظفين إمكانية تحقيق التميز في مسيرتهم المهنية.
تتطلب هذه النقلة النوعية ترسيخ ثقافة التعلم المستمر، كما تدرك المؤسسات أنَّ التعلم لا يجب أن يقتصر على الفترات التدريبية المحدودة؛ بل يُفترَض أن يصبح جزء من روتين العمل اليومي. يمكن الاستفادة من تحليلات التعلم في تحقيق هذه الأهداف، لأنها تؤدي دوراً بارزاً في تحديد أسس برامج تدريب عملية قائمة على المهارات التي يحتاج إليها الموظفون ومتاحة لهم عند الحاجة.
لقد أحدثت تحليلات التعلم نقلة نوعية في برامج التعلم والتطوير عن طريق إدراك الاحتياجات الفردية ودعم التعلم المستمر، وتمكين المؤسسات من تعديل طرائق التدريب لمراعاة تنوع أنماط التعلم وتزويد الموظفين بالمهارات التي يحتاجون إليها لتحقيق التقدم والنجاح مع تغير متطلبات العمل. تضمن تحليلات التعلم استمرارية المنافسة ومواكبة التغيرات الجارية في العالم.
مقاييس أداء الموظفين وتحليل سلوكات التعلم
لقد أحدثت تحليلات التعلم نقلة نوعية في مجال التعلم والتطوير عن طريق تزويد المؤسسات بأفكار عملية يمكن الاستفادة منها في تحسين برامج التدريب وتطوير إمكانات الموظفين. تبدأ عملية التغيير بتحديد المهارات والكفاءات المطلوبة من الموظفين، ومعرفة المؤهلات التي تنقص القوى العاملة والقادة في المؤسسة. تُستخدَم تحليلات سلوكات التعلم لمساعدة المصممين وأصحاب المصلحة في تكوين فكرة عن مدى تجاوب وتفاعل الموظفين مع المواد التدريبية، ويتضمّن هذا تحليل معدلات إكمال برامج التدريب، ونتائج الاختبارات، وغيرها من مؤشرات التعلم التقليدية الأخرى.
يمكن أن تضطر المؤسسة لإنشاء مقاييس إضافية من أجل الحصول على البيانات اللازمة لتوقع المهارات والمواهب التي ستحتاج إليها في المستقبل. تساعد هذه العملية في إنشاء مسارات تعلُّم مخصصة عن طريق التحليلات التنبؤية، ويتطلب هذا تخصيص بعض الوقت، ومشاركة خبراء المادة، وأصحاب المصلحة، والمسؤولين عن اتخاذ القرارات في المؤسسة.
لا تقتصر فوائد تحليلات التعلم على المؤسسات فقط؛ بل إنها تؤدي أيضاً دوراً بارزاً في تحسين تجارب التعلم بالنسبة للموظفين. تقترح مسارات التعلم المخصصة على الموظفين تجارب معيَّنة بناءً على احتياجاتهم الفردية، وأهدافهم المهنية، ومستويات كفاءاتهم. فيما يلي مجموعة من الإجراءات الإضافية اللازمة:
- جمع التغذية الراجعة المباشرة وتقديم الدعم عند الطلب.
- استخدام عناصر إضافية مثل التلعيب.
- دعم الأداء في مكان العمل عن طريق استخدام روبوتات الدردشة المدعومة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لطلب المساعدة وقت الحاجة.
- تقدير نتائج مبادرات التعلم والعائد على الاستثمار في التدريب عن طريق حساب العوائد المادية الناجمةعن تحسين المهارات وتوفير التكاليف وتقليل معدل دوران الموظفين.
- حساب المكاسب المادية.
- تقدير مستوى اندماج الموظفين ورضاهم.
- تقدير مساهمة برامج التعلم والتطوير في زيادة معدل استبقاء العمالة.
مستقبل التعلم والتطوير القائم على البيانات
يُتوقَّع أن يستمر نجاح التعلم والتطوير القائم على البيانات، وذلك للسببين التاليين:
- استخدام التكنولوجيا الحديثة، والذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة في توقع التوجهات والاحتياجات المستقبلية.
- تطبيق تكنولوجيا الواقع الافتراضي والمعزز من أجل إنشاء تجربة تدريب غامر.
في الختام
لقد أصبحت تحليلات التعلم أساسية في برامج التعلم والتطوير التي تجريها الشركات في العصر الحديث. تستفيد الشركات من البيانات الناتجة في إعداد إستراتيجيات تسهم في تحسين مهارات الموظفين وأدائهم من جهة، ورفع مستوى الاندماج وترسيخ ثقافة التعلم والتطوير المستمر من جهة أخرى. تعتمد استمرارية الشركات في العصر الحديث على الاستفادة من البيانات في تطوير القوى العاملة، وتعزيز الابتكار، وتحقيق النجاح.